فصل: 7- مكية الأنعام ورد القول بمدنية بعض آياتها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.7- مكية الأنعام ورد القول بمدنية بعض آياتها:

في روايات عن ابن عباس، وعن أسماء بنت يزيد، وعن جابر، وعن أنس بن مالك وعن عبدالله بن مسعود- رضي الله عنهم جميعا- أن هذه السورة مكية، وأنها نزلت كلها جملة واحدة.
وليس في هذه الروايات ما يعين تاريخ نزول السورة؛ وليس في موضوعها كذلك ما يحدد زمن نزولها من العهد المكي.. وهي حسب الترتيب الراجح لسور القرآن يجيء ترتيبها بعد سورة الحجر؛ وتكون هي السورة الخامسة والخمسين.. ولكننا- كما بينا من قبل في التعريف بسورة البقرة- لا نستطيع بمثل هذه المعلومات أن نجزم بشيء عن تاريخ محدد لنزول السور. فالمعول عليه عندهم- في الغالب- في ترتيب السور على هذا النحو هو تاريخ نزول أوائلها- لا جملتها- وقد تكون هناك أجزاء من سورة متقدمة نزلت بعد أجزاء من سورة متأخرة. إذ المعول في الترتيب على أوائل السورة.. أما في سورة الأنعام فقد نزلت كلها جملة. ولكننا لا نملك تحديد تاريخ نزولها. غير أننا نرجح أنها كانت بعد السنوات الأولى من الرسالة.. ربما الخامسة أو السادسة.. ولا نعتمد في هذا الترجيح على أكثر من رقم الترتيب؛ ثم على سعة الموضوعات التي تناولتها، والتوسع في عرضها على هذا النحو، الذي يشي بأن الدعوة والجدل مع المشركين، وطول الإعراض منهم والتكذيب لرسول الله، أصبح يقتضي التوسع في عرض القضايا العقيدية على هذا النحو؛ كما يقتضي تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن طول الصد والإعراض والتكذيب..
وفي رواية عن ابن عباس وقتادة: أن السورة مكية كلها إلا آيتين منها نزلتا بالمدينة. قوله تعالى: {وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون}.. وهي الآية: 91. نزلت في مالك بن الصيف وكعب بن الأشرف اليهوديين. وقوله تعالى: {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}..
وهي الآية 141، نزلت في ثابت بن قيس شماس الأنصاري.. وقال ابن جريج والماوردي: نزلت في معاذ ابن جبل.
والرواية عن الآية الأولى محتملة؛ بسبب أن فيها ذكرا للكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس، ومواجهة لليهود في قوله تعالى: {تجعلونه قراطيس تبدونها}.. وإن كان هناك روايات أخرى عن مجاهد، وعن ابن عباس أن الذين قالوا: ما أنزل الله على بشر من شيء هم مشركو مكة وأن الآية مكية. وهناك قراءة: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها ويخفون كثيرًا.. فهي على هذه القراءة خبر عن اليهود وليست خطابا لهم. وسياق الآية كله عن المشركين. وقد رجح ابن جرير هذه الرواية واستحسن هذه القراءة.. وعلى هذا تكون الآية مكية..
وأما الآية الثانية فالسياق لا يحتمل أن تكون مدنية. لأن السياق بدونها ينقطع ما قبلها فيه عما بعدها في المعنى وفي العبارة. والحديث متصل عن إنشاء الله للجنات المعروشات، وعن جعله حمولة وفرشا من الأنعام في الآية التي تليها: {ومن الأنعام حمولة وفرشا كلوا مما رزقكم الله ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين}.. ثم يمضي السياق في تكملة الحديث عن الأنعام، الذي كان قد بدأه قبل آية الثمار.. يجمعها كلها موضوع واحد، هو الذي تحدثنا عنه في الفقرة السابقة الخاصة بقضية التحريم والتحليل والنذور.
وإنما الذي جعل بعضهم يعتبرها مدنية هو ما جاء فيها من قوله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده}.. واعتبارهم هذا الأمر يعني الزكاة. والزكاة لم تتقرر بأنصبتها المحددة في الزروع والثمار إلا في المدينة.. ولكن هذا المعنى ليس متعينا في الآية. إذ أن هناك أقوالا مأثورة في تفسيرها بأنها تعني الصدقات، أو بأنها تعني الإطعام منها لمن يمر بهم يوم الحصاد أو جني الثمار؛ أو لقرابتهم.. وأن الزكاة حددت فيما بعد بالعشر ونصف العشر.. وعلى هذا تكون الآية مكية.
وقال الثعلبي: سورة الأنعام مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة: {وما قدروا الله حق قدره}.. إلى آخر ثلاث آيات. و{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم}.. إلى آخر ثلاث آيات..
والآيات الأولى بينا مكيتها، إذ ينطبق على الآيتين الثانية والثالثة من هذه المجموعة ما ينطبق على الآية الأولى منها..
أما المجموعة الثانية فليس هناك- فيما وصل إليه اطلاعي- رواية عن صحابي ولا تابعي عن كونها مدنية؛ وليس في موضوعها ما يدعو إلى اعتبارها مدنية. وهي تتحدث عن تصورات جاهلية؛ وهي متصلة بموضوع التحريم والتحليل في الذبائح والنذور الذي سبق الحديث عنه، اتصالا وثيقا.. لذلك نميل إلى اعتبارها مكية كذلك..
وفي المصحف الأميري أن الآيات [153، 152، 151، 141، 114، 92، 91، 23، 20] مدنية. وقد تحدثنا عن الآيات [92- 91] و[141] و[153- 151] وليس في الآيات [114، 23، 20] ما يدعو إلى الظن بأنها مدنية إلا ذكر أهل الكتاب فيها. وهذا ليس دليلا فقد ورد مثل هذه في الآيات المكية..
لهذا كله نحن نميل إلى اعتبار الروايات المطلقة، التي تنص على أن السورة نزلت بجملتها في مكة في ليلة واحدة. وقد وردت عن ابن عباس وعن أسماء بنت يزيد، وفي الرواية عن أسماء تحديد للرواية بحادث مصاحب على النحو التالي: قال سفيان الثوري عن ليث عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد قالت: «نزلت سورة الأنعام على النبي صلى الله عليه وسلم جملة وأنا آخذة بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم إن كادت من ثقلها لتكسر عظام الناقة».
أما الرواية عن ابن عباس فقد رواها الطبراني قال: حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: «نزلت الأنعام بمكة ليلة؛ جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون حولها بالتسبيح»..
وهاتان الروايتان أوثق من الأقوال التي جاء فيها أن بعض الآيات مدنية. وذلك بالإضافة إلى التحليل الموضوعي الذي أسلفنا.
والواقع أن سياق السورة في تماسكه وفي تدافعه وفي تدفقه يوقع في القلب أن هذه السورة نهر يتدفق، أو سيل يتدفع، بلا حواجز ولا فواصل؛ وإن بناءها ذاته ليصدق تماما هذه الروايات، أو على الأقل يرجحها ترجيحا قويا.

.8- عرض سورة الأنعام لموضوعاتها في موجات متدافقة وأمثلة على ذلك:

أما موضوع السورة الأساسي وشخصيتها العامة فقد أجملنا الإشارة إليهما في مطلع الحديث عنها. ولكن لابد من شيء من التفصيل في هذا التعريف.
روى أبو بكر بن مردويه- بإسناده- عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سد ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح، والأرض بهم ترتج». ورسول الله يقول: «سبحان الله العظيم. سبحان الله العظيم»..
هذا الموكب، وهذا الارتجاج، واضح ظلهما في السورة!.. إنها هي ذاتها موكب. موكب ترتج له النفس، ويرتج له الكون!.. إنها زحمة من المواقف والمشاهد والموحيات والإيقاعات!.. وهي- كما قلنا من قبل- تشبه في سياقها المتدافع بهذه المشاهد والمواقف والموحيات والإيقاعات مجرى النهر المتدافع بالأمواج المتلاحقة. ما تكاد الموجه تصل إلى قرارها حتى تبدو الموجة التالية ملاحقة لها، ومتشابكة معها، في المجرى المتصل المتدفق!
والموضوع الرئيسي الذي تعالجه متصل؛ فلا يمكن تجزئة السورة إلى مقاطع، كل مقطع منها يعالج جانبا من الموضوع.. إنما هي موجات.. وكل موجة تتفق مع التي قبلها وتكملها.
ومن ثم فلن نحاول عرض الموضوعات التي تحتويها السورة في هذا التعريف؛ وإنما سنحاول فقط عرض نماذج من هذه الموجات المتلاحقة فيها:
تبدأ السورة بمواجهة المشركين، الذين يتخذون مع الله آلهة أخرى، بينما دلائل التوحيد تجبههم وتواجههم وتحيط بهم وتطالعهم في الآفاق وفي أنفسهم.. تبدأ بمواجهتهم بحقيقة الألوهية متجلية في لمسات عريضة تشمل الوجود كله؛ وتشمل وجودهم كله.. تبدأ في لمسات ثلاث ترسم مجالي الوجود الكبيرة على أقصى عمق واتساع: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلا وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون وهو الله في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون}..
ثلاث آيات تذرع الوجود الكوني كله في الآية الأولى، وتذرع الوجود الإنساني كله في الآية الثانية.. ثم تحيط الألوهية بالوجودين كليهما في الآية الثالثة!
أي إعجاز! وأية روعة! وأي شمول! وأية إحاطة!
وأمام هذا الوجود الكوني الشاهد بوحدة الخالق. وأمام هذا الوجود الإنساني الشاهد بتدبيره. وأمام هذه الألوهية الحاكمة في السماوات وفي الأرض؛ العالمة بالسر والجهر والكسب.. يبدو شرك المشركين، وامتراء الممترين، عجبا منكرا لا مكان له في نظام الكون، ولا مكان له في فطرة النفس، ولا سند له في القلب والعقل!
وفي هذه اللحظة تبدأ الموجة التالية تعرض موقف المكذبين بآيات الله هذه المبثوثة في الكون والحياة؛ ومع عرض الموقف المنكر الغريب، يجيء التهديد، وتعرض مصارع الغابرين، ويتجلى السلطان القاهر الذي تدل عليه هذه المصارع، وهذه القوارع. فيبدو عجيبا منكرا تعنت المنكرين أمام هذا الحق المبين؛ ويبدو أن المنكرين ليس الذي ينقصهم هو الدليل ولكنه صدق النية، وتفتح القلب للدليل:
وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين. فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون، ألم يروا كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وأرسلنا السماء عليهم مدرارا، وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم، فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين. ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم، لقال الذين كفروا: إن هذا إلا سحر مبين. وقالوا: لولا أنزل عليه ملك! ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون. ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلًا، وللبسنا عليهم ما يلبسون. ولقد استهزئ برسل من قبلك؛ فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون. قل: سيروا في الأرض، ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين..
ومن هنا تبدأ موجة ثالثة في التعريف بحقيقة الألوهية، متجلية في ملكية الله سبحانه لما في السماوات وما في الأرض، ولما سكن بالليل والنهار. ومتجلية في كونه الرازق الذي يطعم ولا يطعم. فهو من ثم الولي الذي لا ولي غيره. الذي يجب أن يسلم العبيد أنفسهم إليه وحده. وهو الذي يعذب العصاة في الآخرة. وهو الذي يملك الضر والخير. وهو على كل شيء قدير. وهو القاهر فوق عباده. وهو الحكيم الخبير..
وتبلغ الموجة قمتها بعد هذا التمهيد كله، في الإشهاد والمفاصلة بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين القوم، وإنذارهم والتبرؤ من شركهم، وإعلان التوحيد في مواجهتهم، في رنة عالية فاصلة جازمة: {قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم وأوحيإلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى قل لا أشهد قل إنما هو إله واحد وإنني بريء مما تشركون}.
ثم تبدأ موجة رابعة تتحدث عن معرفة أهل الكتاب لهذا الكتاب الجديد الذي يكذب به المشركون؛ وتصف هذا الشرك بأنه أظلم الظلم؛ وتقف المشركين أمام مشهدهم يوم الحشر وهم يسألون عن شركائهم فينكرون الشرك ويذهب عنهم الافتراء؛ وتصور حالهم وأجهزة الاستقبال الفطرية فيهم معطلة، لا تلتقط موحيات الإيمان ولا تستجيب، وقلوبهم محجوبة لا تدرك دلائل الإيمان، وهم يدعون أن هذا القرآن أساطير الأولين؛ وتقول لهم: إنهم يهلكون أنفسهم وهم ينهون غيرهم عن الهدى، وينأون عنه. ثم تصور حالهم وهم موقوفون على النار يقولون: يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين! ثم تعود بهم إلى الدنيا وهم ينكرون البعث والمعاد. ثم تعقب على هذا بتصوير حالهم وهم موقوفون على ربهم، وهم يسألون عن هذا الإنكار؛ وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم. وتنتهي الموجة بتقرير خسارة المكذبين بلقاء الله، وتفاهة الحياة الدنيا إلى جانب الدار الآخرة المدخرة للذين يتقون: {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته إنه لا يفلح الظالمون ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا أين شركاؤكم الذين كنتم تزعمون ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون ولو ترى إذ وقفوا على النار فقالوا يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين ولو ترى إذ وقفوا على ربهم قال أليس هذا بالحق قالوا بلى وربنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم ألا ساء ما يزرون وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو وللدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون}.
ثم تبدأ موجة خامسة، يلتفت فيها السياق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسليه ويسري عنه ما يحزنه من تكذيبهم له ولما جاءهم من عند الله به. ويجعل له أسوة في الرسل قبله ممن صبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصر الله. ويقرر أن سنة الله لا تتبدل، ولكنها كذلك لا تستعجل! فإن كان صلى الله عليه وسلم لا يصبر على إعراضهم، فليبذل جهده البشري في إتيانهم بخارقة! ولو شاء الله لجمعهم على الهدى. إنما اقتضت مشيئته في خلقه- وهو وحده صاحب الأمر المتصرف- أن يستجيب الذين لا تتعطل أجهزتم الفطرية عن التلقي. والموتى لا حياة فيهم فهم لا يستقبلون موحيات الهدى ولا يستجيبون. والله يبعثهم، وهم إليه يرجعون..
{قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهمبآية ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون}..
وهكذا يمضي سياق السورة موجة في إثر موجة على هذا النسق الذي عرضنا منه نماذج، لعلها تصور طبيعة السورة، كما تصور موضوعها.. وهي تبلغ في بعض موجاتها ذروة أعلى من ذرى هذه الموجات التي استعرضناها؛ كما أن تدفقها في بعض المسالك أشد جيشانا وأعلى إيقاعًا.. ولكننا لا نملك أن نستعرض السورة كلها في هذا التعريف المجمل، وسيأتى شيء من ذلك في الفقرة التالية..